محمد على السيد يكتب .. راديو (أم ممدوح)

محمد على السيد
محمد على السيد

راديو (أم ممدوح)•• يلعلع في الصالة وخارج بابها المفتوح على مستطيل (بسطة) سلم ومخرج شقتي الدور الرابع (الأخرانى). 
 دفعت فيه شبكتها الذهبية.. تضعه بهيكله الخشبي الكبير البنى الداكن على رف أعلى الحائط المواجه تطلقه ينطق بعد فترة تسخين بطاريات تشغيله على إذاعة (صوت العرب) تتابع وقائع حرب 56 ونصرة  بورسعيد وانسحاب العدوان الثلاثى مدحورا  وأغانى البطولة وأمانه عليك أمانة يا مسافر بورسعيد وقبله تأميم قناة السويس ومحلاك يا مصرى وأنت ع الدفة وخطاب عبد الناصر من على منبر الأزهر (سنقاتل)، تلتقط كلمة من هنا وتعليق من هناك.. لا تفقه معظمه يشحنها بالحماس.. يجاوبه مشاعر.. جيرانها الأساسيين وباقي السكان.. أهل بيت واحد.
بابنا أيضا مفتوح على (الفسحة) والراديو.. سمح لأبي.. في شقاوة شبابه، عائدا بعد صفارة زيتيات تكرير بترول السويس، في الثانية والنصف عصرا تطق فى دماغه المشاغبة ، وأم ممدوح وأبوه منهمكين فى المطبخ برص طبلية الغداء.. يضعونها أمام الباب ومرمى طبليتنا.

لمة غديوة.. يتسلل مرتكزا على ساقه الطويل.. يغلق الراديو الزاعق.. يتوارى سريعا برشاقة في غرفنا يترقب بأذنيه وأم ممدوح سريعة الانفعال.. ذكية.. وفهمت لم يهمها من الأمر.. إلا دفاعها الصارخ  عن مشاعرها ووعيها
تزعق بين البابين فى اتجاهنا
(أييييييه.. هو أنا مش وطنية?!!!).. كان بالإذاعة تحليلا سياسيا متعمقا.. عقب نشرة الثانية والنصف عصرا.
ولم يستطع.. أبى وأمى وأبو ممدوح شخصيا.. إلا الضحك من  القلب الرايق والحساسية الوطنية  المفاجئة.

وقد سبق وجادلوها في تحويشة شبكتها لأسرتها.. فلم يثنوها عن شراء الراديو وبهجة قلق متابعة  الأحداث.. يفلتون من بوادر أزمة جيرانية متوقعة.. بتصفيق قادم من الشارع، عبر الشرفة  المطلة.. تدافعوا يتفرجون.. شاب سويسي أمام  المقهى المواجه.. رفع كرسى بأسنانه الصلدة إلى السماء، فاردا ذراعيه يرقص وسط الشارع، تجمع حوله باقي الرواد  والمارة.
يدقون نغمات الكف السويسي، فرحين، بنصر.. ما حلموا بتحقيقه.. على أكبر دولتين (انجلترا وفرنسا ) وإسرائيل.. كنت سن الثانية ••لكن على مدى حياة والدى، حفظت تفاصيلها، مما يرويه  ساعات صفائه.. يكرر  بعدها جملته الدائمة.. أيام  كانت وحديها!!

يقصد أياما للبهجة •• تختلف عما قبلها وبعدها.. فى نصر 1956

حافية على الأسفلت
••

فارعة نحيفة•• قسماتها فرعونى نحت جرانيت وردى •• عسلية عيناها رجاء•• يداها المعروقتان تحبكان طرحتها على رأسها وبقايا شعرها المضموم بالقرطة الغامقة كمال سوادها على جلبابها الصعيدى (أبو وسط) حتى أخمصها•• قدمها المفلطحة الخشنة الجلد تطهرها لسعات نيران أسفلت قيظ ظهيرة الصيف 
أعتادت زحام الأهالى وتهليل قلوبهم من مسك الروائح وترفق الأرض بأبدانهم (الله أكبر •• الله أكبر) وسياج الأمن والسيارات ونجوم أكتاف الضباط •• تغب فى ثرى أرض الشهداء •• الوادى المقدس •• قدس الأقداس •• مقام  قديس وولى •• لعل (يوسف) يخرج من الجب

مهرولة من غرفتها المعتمة الرطبة البعيدة بعد بيتها الصعيدى الرحب للسماء •• فى ضى الشمس تفتته ظلال أشجار المشتل الى سبيلها •• وبريق ضوءها يدفء لحود الأحياء عند ربهم يرزقون ••

منذ هلل الصبية (شهداء •• شهداء) بطرح من معارك سيناء
لا تلوى على شىء إلا هدفها •• غير عابئة بأحد •• ولا العيون المترفقة المشفقه الغاضبة المستهجنة المتبرمة الضجرة الطامعة النهمة الوقحة
وهمهمات •• 
(كفايه •• مازهقتش •• جايبة لنا الكلام •• حافية •• الرحمة •• قلب الأم •• ما يحس بالنار إلا اللى كابشها)
تجترها فى ليل أرق وحدتها ولهفتها وحرقة قلب خيالاتها
يواسيها نغم راديو المقهى (كنت عايش مش عشانى •• علشانه هوه) 
•••
(يوسف)•• زينة الشباب •• ذخر السنين •• ذكاء •• تربية •• تعليم عالى •• الفالح (ابن موت) طفحنا الكوته وراءه سعداء بمشوارنا وبلوغه مبلغ الرجال يتبقى له خدمة الجيش ووظيفة وبيت وأحفاد منهم حلاوة الدنيا وعوض السنين
•••
(أدعى ربنا يا أمى نخلص ثارنا وننتصر)
•••
نفخر بقهرالعدو وتحرير الأرض
ولا يعود 
مفقود؟!!!
•••
يعنى إيه؟!
مات •• استشهد •• مصاب •• عاجز•• أتفرم تحت جنزير دبباتهم •• تبخر •• تاه فى الجبال •• فقد الذاكرة •• ضائع 
فى أرض الله •• أسير يعذب أو نتبادله يوما
•••
أسئلة •• قلق •• حلم •• أمل •• انتظار •• أتمنى •• ادعو •• يا رب 
أسابق عمرى اللى بيرمح فى الخلاء لاطمئن  
(عايشة ومش عايشة) 
•••
أبوه مات بحسرته
وفرغ صبر بنت خالته تلحق قطار الزواج تجاملنى •• ابنها باسم الغالى 
وتخف رجل زملائه فى جهاد النفس 
لا يطاوعنى قلبى أرجع بلدنا إلا لما أعرف له دفنه 
يمكن ساعتها أبقى  جواره حتى ألحقه
وبمرتب وظيفته المنتظرة أعمله ليلة لله
 أنام ولو ليلة مرتاحة البال وأحنى أيدى وقدمى وأشترى  نعلى جزمةجديدة وأتعطر مسك والبس ملون 
•••
أجرى ألحقهم •• مرة دفنوا ومشيوا سايبن الهواجس رغم إيمانات الشاويش •• أنه ما ظهر!!
يلقانى قبيل جنود سرية دفن الشهداء وحرس تشريفة 21 طلقة
- يا أمى أكدت لك •• أول ما يظهر هأجيلك بالبشارة•• ولن أدفنه قبل أن تريه 
ولم يقوى أمام لهفة عينىها •• يسمح لها   
•• تقلب عينيها على وجوه غافية فى بطاطينها الصوفية الرمادية الميرى•• تبحث عن علامة •• قلادة الجندية باسمه ورقم وحدته  •• أو أى ما يحسم أنه هو•• أو تداخله مع زميل قبطى فكل شهداؤنا سواء
•••
ويتجلد على قلب الأم يقرأ لها أسماء الشواهد المعدنية   
كبى الإحباط ملامحها وكاهلها فبطئت خطوتها •• حافية
لا يغلبها لهيب طريقها •• صامدة لا تيأس ولا تمل 
وحقيقة•• يسبقنى أو أسبقه نلتقى عند عزيز مقتدر  
•••
تهمس راجعة
- لسه